من طرف ¨°•√♥ ملاك الكون ♥√•°¨ الثلاثاء فبراير 21, 2012 10:20 pm
سأحدثكم عن رهانين راهنتهما هذه السنة، خسرت أحدَهما وربحت الآخر. لا بأس أولاً أن أبيّن أن الرهان ممنوع شرعاً طالما كان من جهتين، لكنه مُباح من جهة واحدة لأنه يكون عندئذ في معنى الشرط أو النذر. سأوضح بمثال: ابني كنان حاذق في استخراج المال من الجيوب. راقبته في السنة الأخيرة فرأيته يضيع الوقت ولا يكاد يدرس شيئاً، فقلت له: أنت لن تنجح هذه السنة قطعاً. قال: هل تراهنني؟ قلت: نعم. قال: إذا نجحت بمعدل يزيد على ثمانين بالمئة تعطيني خمسين ريالاً؟ فاستسهلت المبلغ واستبعدت نجاحه بذلك المعدل فقبلت… وخسرت الرهان. في هذه الحالة لم يتضمن الاتفاق أن يدفع هو أي غرامة إذا لم يحقق النجاح المطلوب، لذلك نقول إنه رهان من طرف واحد أو أنه بمثابة الشرط، وهو مباح.
أعود إلى رهانَيّ اللذين بدأت حديثي بهما. الأول منهما كان بعد انتصار الثورة المصرية وانفجار ثورتَي ليبيا واليمن. كانت الثورات العربية هي حديث كل مجلس بطبيعة الحال، وفي واحد من تلك المجالس ذُكرت سوريا، فقلت للجالسين: إن سوريا ستثور خلال شهور. فقال أحدهم: لن تثور في مئة سنة! قلت: بل ستثور في بضعة شهور، هل الشعب السوري أقل رجولة من الشعب المصري أو التونسي أو الليبي واليمني؟ قال: ليس بعد حكم البعث خمسين سنة؛ لقد تغيرت النفوس. قلت: تدفع ريالاً إذا ثار السوريون؟ قال: نعم. وتحمس بعض المشاركين فشاركوا في المراهنة حتى بلغت جملة الرهان اثني عشر ريالاً، أي نحو مئة وخمسين ليرة سورية. وما لبث الشعب السوري الأبيّ العظيم أن ثار، وكسبت الرهان ولكني تنازلت عنه مسروراً. لقد كنت مستعداً لدفعه مضاعَفاً ألفَ مرة ليثور شعب سوريا، وقد فعل، بارك الله فيكم يا أعظم أبطال أمة العرب، بل يا أعظم أبطال جنس البشر كله في هذا الزمان، لقد ثرتم على أشد خصم للحرية وأبعده عن الإنسانية وأعظمه إجراماً في هذا العصر. بارك الله فيكم يا أبطال الشام.
الرهان الثاني خسرته، فقد راهنت على أن الثورة ستنجلي عن سقوط النظام قبل العيد، وها أنذا أكتب هذه الكلمات في يوم العيد الثالث والنظام لمّا يسقط. لا، لم تقصّروا أنتم، ولعلي لم أفْرط في التفاؤل، ولكن النظام أفرط في الشراسة وتفوّق على نفسه في الإجرام.
لماذا ضيعت وقتكم بحكاية هذه القصة؟ لأقول ما يأتي: لقد بدأت ثورة سوريا العظيمة بلا خطة ولا إعداد. في أول الأمر خرج عشرات، ثم مئات، ثم ألوف ثم عشرات ألوف ثم مئات ألوف، ولا أستبعد أنهم اقتربوا من المليون ذات يوم. بدؤوا بالغضب ورجاء الإصلاح ثم انتهوا بطلب لا مساومة فيه: إعدام الرئيس وأعوان الرئيس من كبار القتلة والمجرمين. لم يكن لهم منذ البداية شكل محدّد ولا هدف موحّد، ولكنهم سرعان ما صاروا ثورة شعبية عارمة، بل صاروا أجمل وأعظم ثورة في العصر الحديث، لكنْ بقيَ الزمنُ عنصراً مجهولاً طول الوقت.
لقد اتخذ عمالقة الشام القرار ولن يرجعوا إلى بيوتهم قبل تحقيق الهدف: انتصار الثورة وإسقاط النظام، ولكنهم بدؤوا يتعبون من طول الطريق، ومع التعب والخسائر والإصابات وارتفاع مستوى إجرام النظام راحوا يسألون: ماذا بعد؟ أو يتساءلون: هل حققت الثورة السلمية أي نتيجة حتى الآن؟ أو يتشككون: هل ستوصلنا الثورة بصورتها الحالية إلى نتيجة؟ أو ينادون: نريد دعماً دولياً وغطاء جوياً. أو يقترحون: لا بد من عسكرة الثورة والانتقال إلى القتال.
للإجابة عن هذه التساؤلات ومناقشة هذه الأفكار بدأت بكتابة سلسلة مقالات ستأتي تباعاً بإذن الله، وجعلت عنوانها الكبير “الثورة السورية: المرحلة الثانية”، لأني اعتبرت أن الثورة أنهت مرحلتها الأولى مع غروب شمس آخر أيام رمضان ودخلت في مرحلة جديدة تقتضي تطوير وسائل جديدة، وقد بات من الضروريات إحياء الثقة بالثورة وبث روح جديدة فيها والسعي إلى توضيح معالم المرحلة المقبلة.
إن المرحلة الفاصلة بيننا وبين ساعة الحسم قد تكون قصيرة (تُعَدّ بالأسابيع) وقد تطول كثيراً (ستة أشهر أخرى مثلاً أو أكثر)، اعتماداً على آليات الحسم التي سيعتمدها المجتمع الدولي الذي يبدو أنه قرر إنهاء النظام والانتقال إلى سوريا الجديدة، سوريا ما بعد الأسد. إن عالم السياسة مبني على اللعب الخفي والتحرك وراء الكواليس، وفي الظروف الاستثنائية يزداد خفاء الألاعيب السياسية بحيث يتعذر على المراقب الخارجي الجزم بأي احتمال. نعم، إن المؤشرات تشير إلى حسم سريع أكثر مما تشير إلى حرب استنزاف، لكن الحكمة تقتضي من الثورة أن تستعد لمرحلة طويلة شاقة وأن تضع خططها على هذا الأساس، وهذا هو تماماً ما أنشأت سلسلة المقالات الجديدة (الثورة: المرحلة الثانية) من أجله. في رواية سيرفانتيس الشهيرة يقول دون كيشوت: “إن الرجل المستعد يكسب نصف المعركة مقدماً”. إن التفاؤل بالأفضل لا ينبغي أن يصرفنا عن الاستعداد للأسوأ، فلنخطط إذن لمرحلة طويلة شاقة قادمة، ولكن لنرجُ وندعُ الله أن تنتهي المواجهة نهاية سريعة حاسمة لصالح الثورة بإذن الله.
هذه المقالات موجَّهة لكل ثوار سوريا الذين يتحركون على الأرض، ولكل من حمل همّهم ووقف مع ثورتهم وتحمس لقضيتهم في الداخل والخارج، وسوف أجتهد في تقديمها موجَزة مركزة بلا تطويل، لأن من الناس من إذا استطال المقالة تركها جملة واحدة، وأنا حريص على أن لا يفعل وأن يقرأها ويستوعبها ويعمل بها، لذلك سأميل إلى الاختصار. لكني لن أضحّي بتفصيل لا بد منه أو بشرح أجده ضرورياً في بعض الأحيان، فإذا وجدتم شيئاً من الاستطراد الممل فاقفزوا من فوقه، وإذا استطلتم المقالة فتنقّلوا بين فقراتها وخذوا منها خلاصاتها، وأرجو أن ينفع بها الله. أيضاً أريد أن أقدم اعتذاراً مسبقاً بين يدي المقالات الآتيات، فربما وجدتم في محتوياتها بعض التكرار أو التداخل، فإني اضطررت إلى عرض الفكرة في موضع وإعادة استثمارها في موضع آخر مما يوحي بأنها مكررة، وإنما هي ضرورة السياق، فاعذروني.
كفاك يا بشــــــــــــــار